يقول ابن رجب -رحمه الله- :
في "المسند" والترمذي مرفوعًا: " «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
فقسَّم الناسَ إِلَى قسمين: كيّس، وعاجز. فالكيّسُ: هو اللَّبيب الحازمُ العاقل، الَّذِي ينظر في عواقب الأمور، فهذا يقهر نفسَه ويستعملُها فيما يعلم أنَّه ينفعها بعد موتها، وإن كانت كارهةٌ لذلك.
والعاجز هو الأحمقُ الجاهل، الَّذِي لا يفكر في العواقب؛ بل يتابع نفسه عَلَى ما تهواه، وهي لا تهوى إلَّا ما تظن أنَّ فيه لذتها وشهوتها في العاجل وإنْ عاد ذلك بضرٍّ لها فيما بعد الموت، وقد يعود ذلك عليها بالضرر في الدُّنْيَا قبل الآخرة.
فهذا هو الغالب واللازم، فيتعجَّل -هو لنفسه- العارَ والفضيحة في الدُّنْيَا، وسقوطَ المنزلة عند اللَّه وعند خلقه، والهوان والخزي، ويُحرم بذلك خير الدُّنْيَا والآخرة، من علمٍ نافع ورزق واسع وغير ذلك.
ومَن خالف نفسَه ولم يُتبعها هواها تعجَّل بذلك الجزاء في الدُّنْيَا، ووجد بركة ذلك من حصول العِلْم والإيمان والرزق وغير ذلك.
وقيل لبعضهم: بما بلغ الأحنفُ بن قيس فيكم ما بلغ؟ قال: كان أشد الناس سُلطانًا عَلَى نفسه.
فهذه النفس تحتاج إِلَى مُحاربة ومجاهدة ومعاداة؛ فإنَّها أعدى عدو لابن آدم، وقد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "المُجاهد من جاهد نفسه في الله"...
وقال الصِّديقُ لعمر رضي اللَّه عنهما في وصيته له عند موته: أوَّل ما أُحذرك نفسك التي بين جنبيك.
وفيه يقول بعضُهم: كيف احترازي من عدوي، إذا كان عدوي يين أضلاعي؟!
وقال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها. ويقال: إنَّه الجهاد الأكبر، ورُوي مرفوعًا من وجه ضعيف.
فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزَّ بذلك؛ لأنّه انتصر عَلَى أشد أعدائه وقهره، وأسره واكتفى شرَّه، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فحصر الفلاح في وقاية شح نفسه، وتطلُّعها إِلَى ما مُنعت منه، وحرصِها عَلَى ما يُضيرها مما تشتهيه: من علو وترفع، ومال وجاه، وأهل ومسكن، ومأكل ومشرب، وملبس وغير ذلك.
فإنَّها تطلع إِلَى ذلك كلِّه وتشتهيه، وهو عين هلاكها، ومنه ينشأ البغيُ والحسد والحقد؛ فمن وقي شح نفسه فقد قهرها، وقصرها عَلَى ما أُبيح لها وأُذن لها فيه، وذلك عين الفلاح.
كان بعض العارفين يُنشد:
إذا ما (عدلت) النفس ... عن الحق زجرناها
وإن مالت عن الأخرى ... إِلَى الدُّنْيَا منعناها
تخادعنا ونخدعها ... وبالصبر غلبناها
لها خوف من الفقر ... وفي الفقر أنخناها
وبكل حال، فلا يقوى العبدُ عَلَى نفسه إلاَّ بتوفيق الله إياه وتوليه له، فمن عصمه الله وحفظه تولاَّه، ووقاه شح نفسه وشرها، وقوَّاه عَلَى مُجاهدتها ومعاداتها.
ومن وكله إِلَى نفسه غلبته وقهرته، وأسرته وجرَّته إِلَى ما هو عين هلاكه، وهو لا يقدر عَلَى الامتناع كما يصنع العدوُّ الكافر إذا ظفر بعدوه المسلم؛ بل شر من ذلك؛ فإن المسلم إذا قتله عدوه الكافر كان شهيدًا، وأمّا النفس إذا تمكّنَتْ من صاحبها قتلته قتلاً يَهلك به في الدُّنْيَا والآخرة...
فلهذا، كان من أهم الأمور سؤال العبد ربَّه أنْ لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين.
يا رب هئ لنا من أمرنا رشدا ... واجعل معونتك الحُسنى لنا مددا
ولا تكلنا إِلَى تدبير أنفسنا ... فالعبد يعجز عن إصلاح ما فسدا
( مجموع رسائل ابن رجب ١٤٢،١٤٥/١ ).
#مواعظ_ابن_رجب
- مجموعة الواتساب /
عِبرٌ وذِكرى من الكتاب والسُّنَّة وأقاوِيل العارِفين ، لعلها تُرْوِي النفوس ، وتُحيي القلوب .. https://chat.whatsapp.com/BomfsDwdazeKmUOHivfEZB
- قناة التيليجرام /
https://t.me/Rakb_m