الخوف من الافتراس وصراع البقاء جعل صغير المها العربي يخدع المفترسات والأم تحمي وتدافع في حفرة النجاة
يعتمد الفيديو على مشهد من النادر رصده في الحياة البرية، صورته لصغير المها العربي وهو في حالة غريبة؛ حيث ربض على الأرض والتوى برقبته ووضع رأسه تحت بطنه وبقي ساكنا لا تصدر منه أي حركة، وسأقدم تفسيرا لهذا السلوك ولماذا يبقى هكذا فترة ليست قصيرة.
كنت لمحت الصغير بلونه الباهت المشابه للون الرمال وهو يلتوي، وذلك خلال زيارتي لإحدى المحميات الطبيعية الواسعة متجولا بالسيارة التي أوقفتها وقمت بتثبيت كاميرة بعدسة بعيدة المدى كي تصور حركته، لأني أدركت أني أمام فرصة للخروج بلقطات تجسد معلومة عن أسرار وسلوك حياة المها العربي وصغارها وأمهاتها. تقدمت باتجاهه وكنت أحدث أصواتها مصفقا بيدي وأنادي بأصوات مسموعة، وحدث ما كنت أتوقعه، فلم يتحرك، ثم مررت يدي على جسم هذا الرضيع لكن بقي ساكنا، ثم حركت رقبته وربت على أجزاء من جسمه، لكن لم يتحرك وبدا كأنه ميت أو يتظاهر بالموت. ولذلك ذهبت عنه بخطوات سريعة باتجاه الكاميرة التي مازالت في وضع التشغيل، وحدث أثناء ذلك مفاجأة طريفة؛ حيث صورته الكاميرة وهو يسترق نظرة نحوي ليتأكد أني قد غادرت المكان، وانطلق سريعا بنشاط ملحوظ إلى أمه التي كانت ترعى في مكان ليس قريبا.
هذه الحركات التي أتقنها الصغير تكشف عن سلوك الحذر الفطري في حياته البرية؛ إذ يبقى ساكنا إذا شعر بتهديد قريب ويتخفى بالسكون التام ويساعده في ذلك أن لون جسمه خلال هذه المرحلة من عمره مماثل للون رمال البيئة الصحراوية. لكنه يكتسب بعد أسابيع أو بضعة أشهر اللون الأبيض الناصع الذي يتميز به المها العربي، وحينها يكون بجسم نشيط يستطيع اللحاق بأمه والهرب معها فيما لو قابلهما مفترسات كالذئاب أو الضباع أو أي تهديد آخر.
ومع أن الخوف الأعداء وسرعة الهرب سلوك فطري في المها العربي إلا أن الأم تكون شرسة في الدفاع عن صغيرها وسلاحها قرنان طويلان حادي الطرفين.
تجد في الفيديو شرحا لهذه الحالة الفريدة حتى ما قبل الولادة ذلك أن أنثى المها العربي Arabian Oryx إذا اقترب توقيت الولادة تبحث عن مكان ملائم منعزل عن قطيع المها لكي تحفر حفرة صغيرة وتضع مولودها فيها ويبقى هو ساكنا حتى لا يلفت أنظار المفترسات والطيور الجوارح الكبيرة، ثم بعد أن تنظف جسمه وتطمئن عليه تذهب عي إلى المرعى حتى تتغذى من أكل الأعشاب والنباتات البرية ولكي تدر الحليب بينما يبقى الصغير في المكان، ثم تعود الأم إلى صغيرها كي يرضع من ثديها، وتكرر الذهاب للرعي والعودة لإرضاع مولودها إلى أن يقوى ويستطيع العدو السريع معها.
هذا السلوك الحذر يجعلنا نتأمل في هذه العلاقة الملفتة للانتباه بين أنثى المها العربي وبين صغيرها، تلك العلاقة التي تقوم على مزيج من غرائز الخوف والحذر والعطف والرحمة مع الحيلة الفطرية لأمه في إخفاء الصغير الذي يستجيب أيضا لغرائزه ويبقى بحذره الفطري ساكنا في المكان ويساعده في ذلك أنه لا يُكتشف من بعيد.
أما الذكر أو "الأب لهذا الصغير" الذي يكون مسيطرا عادة على مجموعة إناث يتزاوج معها، فإن الحقيقة أن كلا من حيوانات المها العربي والوعل الجبلي أو الوعول، وظبي الريم أو غزال الرمال، وظبي الإدمي أو غزال الجبل.. فإن ذكورها أو "الآباء" فيها ليس لها دور في حماية ورعاية الصغار، بل قد تصبح عدوانية تجاهها حينما تكبر وتصبح ذكورا مثلها بلغت مرحلة التزاوج، ولا يتقبل الذكر المسيطر على قطيع الإناث أن ينازعه على السيطرة غيره من الذكور، ولهذا نشاهد في الحياة البرية أحيانا بعض ذكور المها والوعول والغزلان تعيش منفردة وقد لا تخلو من إصابات أو بقرون مكسورة، لأنها فشلت في تكوين قطيع لها واستمالة إنثى أو إناث، بعد معركة أو معارك مع ذكور أقوى منها لم تسمح لها بالاقتراب من الإناث.
من المفيد عند تناول موضوع عن المها العربي أن أشير إلى قصة انقراضه من صحاري السعودية انقراضا نهائيا خلال سبعينيات القرن الماضي "القرن العشرين" رغم أنه من الحيوانات البرية الأصيلة التي كانت منتشرة في صحاري السعودية خاصة في الكثبان الرملية في الربع الخالي والنفود الكبير، لكن الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية التي أنشأت عام 1986م نجحت خلال تسعينيات القرن العشرين في إعادة توطين المها العربي حتى توسع نشره في المحميات الطبيعية في السعودية ابتداء من محمية محازة الصيد باتجاه شمال شرق الطائف ثم في محمية عروق بني معارض في الربع الخالي، ثم في السنوات الأخيرة في محمية الملك عبدالعزيز الملكية التي يقع ضمن نطاقها كثبان صحراء الدهناء وهضبة الصمان التي تشتهر خلال فصل الربيع بتنوع النباتات البرية ذات القيمة الرعوية حتى أن ربيع الصمان مضرب مثل في خصوبة المراعي، وكذلك تم اطلاق المها العربي في محمية الملك سلمان الملكية التي اضم مناطق برية مميزة مثل الطبيق والخنفة وحرة الحرة وأجزاء من النفود الكبير وبراري تتبع متطقة حائل، وأيضا في محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية التي تضم مناطق برية طيبة المرعى خاصة خلال الربيع مثل التيسية والحجرة، ومحمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ومحمية الإمام عبدالعزيز بن محمد الملكية ومحمية شرعان في محافظة العلا وغيرها.
بقي أن أذكر حقيقة عن المها العربي تكون محل سؤال يتكرر باستمرار، وهو من أين تشرب هي والغزلان الماء وهي في صحاري جافة؟. ولهذا أؤكد على حقيقة أنها من الجوازي أي التي تكتفي بسد حاجتها من السوائل التي تجدها في الأعشاب والنباتات الرطبة التي تأكلها، فهي ليست بحاجة ماسة لشرب الماء إذا توافر في مرعاها نباتات رطبة وأشجار ظل تأوي إليها هذا فضلا عن الله وهبها من الخصائص في أجسامها ما يجعلها تتأقلم مع نقص مصادر المياه، مع أنها تشربه إن وجدته.
من ركائز هذا الفيديو أنه يكشف عن غريزة الرحمة في المها العربي مثله مثل حيوانات أخرى، ولهذا أختم مذكرا بحديث لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم جاء فيه:
"جعل اللهُ الرحمةَ مئة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرَها عن ولدها خشية أن تصيبَه".
فاللهم رحمتك يا رحيم واجعلنا رحماء في كل شيء.
مع التحية
قناة محمد اليوسفي